اردن النشاما
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


الشباب والبنات ( فرسان التغيير)
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 الـــــــصـــراخ

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
فارس الا
زائر
Anonymous



الـــــــصـــراخ Empty
مُساهمةموضوع: الـــــــصـــراخ   الـــــــصـــراخ I_icon_minitimeالسبت نوفمبر 03, 2007 4:31 am

الـــــــصـــراخ
بهو المشفى يحاول عنوة أن يقبض على أضواء كريستالية لامعة بدأت تتلاشى أمام‏
خيوط الفجر الناهض عبر النوافذ الزجاجية التي تصل المشفى بالعالم الخارجي،.... وفي‏
بعض الزوايا لا زالت أضواء المربعات الكريستالية المنبعثة من سقف البهو تحتفظ ببريقها‏
كما لوكانت في أول الليل..‏
وعلى المناضد الموزعة في أرجاء مختلفة تبدو وجوه الممرضات المناوبات في آخر‏
حالات صحوها، وثمة أنين ينبعث بين الفينة والأخرى لمرضى أحسوا للتو بقدوم الفجر، أو‏
ايقظتهم جلبتنا ونحن ندخل الآن بهو المشفى، حيث غرفة المخاض التي غيّبت زوجتي خلف‏
باب خشبي عريض ظل يهتز لفترة من الزمن تمكنت خلالها أن ألحظ الحركة الدائبة لطاقم‏
الممرضات والاطباء الذين استيقظ بعضهم الآن، وخرجوا من غرفهم وهم لا يزالون يربطون‏
أزرة صداراتهم البيضاء التي بدت وقد تكسرت أطرافها أثر نوم مؤقت على أطراف الأسرة،‏
أو فوق المقاعد البلاستيكية البيضاء المتخاصرة داخل غرف الإطباء والممرضات، وقد بدا‏
على وجوه البعض آثار انزعاج واضحة ربما ترافقت في أعماقهم بسيل من الشتائم المضمرة‏
لهذه اللحظة التي دخلت فيها زوجتي غرفة المخاض.. أو ربما لعنوها ولعنوا زوجها وحتى‏
القادم الجديد الذي سيهبط بعد قليل إذا سارت الأمور على ما يرام...‏
وبذلك يكون قد أكل أول لعنة في حياته... أو حتى قبل خروجه للحياة.. وبالمقابل بدا‏
على وجوه المستخدمات شيء من الإطمئنان والفرح الذي حاولن انهاضه رغم علامات‏
التعب والبؤس الواضحين على ملامحهن، والسبب في ذلك كما علمتني التجربة.. حيث دخلت‏
هذا المكان أكثر من خمس مرات خلال الخمس سنوات الماضية هو رغبتهن في الحصول‏
على مبلغ من المال بشارة المولود الجديد، أو بيعهن بعض لوازم الولادة الموجودة بحوزتهن،‏
والمخبأة في بعض أدراج الخزن القديمة المتآكلة، وهن الوحيدات اللاتي حاولن مجاملتي في‏
هذه الساعة الحرجة من آخر الليل..‏
سيكون المولود صبياً إن شاء الله ...، توكل على الله وادع لها بالسلامة ..، الولد الذي‏
يوفقه الله ثروة لأهله... لا تضجر... اصبر قليلاً...‏
حتى اولئك اللاتي لم يتكلمن، كن يبادلنني نظرات لا تخرج في مغزاها عن كل‏
ماسمعت من عبارات المجاملة..‏
وبعد فترة وجيزة توقف باب غرفة المخاض عن الاهتزاز، وراح ينوس ببطء شديد‏
على نحو لم يعد يسمح لي بملاحظة مايجري في الداخل،... واستحالت الاصوات إلى‏
همهمات ترتفع حيناً وتتلاشى أحياناً، وبين هذا وذاك يرتفع صراخ زوجتي ... ياالله.. ثم‏
يغيب ليصبح أنيناً مقطعاً، أحاول التقاطه بصعوبة بالغة، وتنفجر في داخلي مشاعر متناقضة،‏
من الألم والفرح والترقب،... كل هذا وأنا أذرع المكان جيئة وذهاباً..‏
أقف أمام الباب، أصيخ السمع قليلاً، ثم اتابع خطواتي الواهنة فوق بلاط نيلي لامع،‏
لازال يحتفظ بأذيال النور المنبعث من المربعات الكريستالية المتخاصرة علىطول السقف..‏
وفي محاولة لتقطيع الوقت، وابتلاع حالة الترقب، تطير عيناي عبر النوافذ وفوق بعض‏
المصابيح الصغيرة المعطلة التي غاب التماعها عن بلاط المشفى،.....ثم أقف قليلاً لمراقبة‏
بعض القادمين الجدد، الذين تغيّبهم أقسام المشفى المتداخلة.. بين الاسعاف والجراحة والولادة‏
وغير ذلك..‏
يرتفع صراخ زوجتي ..آه... ياألله.. فأحث الخطى نحو باب غرفة المخاض.. أقف‏
متوتراً إلى أن يغيب الصوت، فأعاود المشي من جديد، وأنا أتمتم ببعض الدعاء واستسلم‏
لتخيلاتي وأفكاري..‏
كيف سيكون المولود الجديد...؟‏
أتصور شلكه وبكاءه وحركته، وشبابه، وطريقة مشيه ومصيره المجهول.. تتداخل في‏
ذهني أيام طفولتي وشبابي..، أتذكر أمي، .. أشعر الآن بالكثير من الندم على كل الآلام التي‏
سببتها لها منذ اللحظة الأولى لولادتي.. صوتها ينهض في أعماقي ..آه .. يا ألله ...، ثم‏
أتخيل كيف كان بكائي، وكيف كان شكلي..، أتمنى لو أراها الآن في هذه اللحظة تماماً لأقبل‏
يديها..، لأشتم رائحة صدرها، ..لأغرق في حنانها كما كنت أفعل حين تواجهني متاعب‏
الحياة..‏
أقرر زيارة المقبرة في يوم الغد..‏
يرتفع الصراخ مرة أخرى، يخرج بعضهم من غرفة المخاض، أركض نحوه..، لا‏
تخف...، توكل على الله، اصبر قليلاً ..، يقولون ذلك بوجوه محايدة، وكلمات مختصرة لا‏
تسمح لي بالمزيد من الكلام..‏
في هذه اللحظة..، ساورني بعض القلق، تذكرت أطفالي الذين تركتهم في الفراش وهم‏
ينامون على أحلامهم...، شعرت بشيء من الخوف لم أشعر به من قبل..، صارت لدي رغبة‏
عارمة بابتلاع سيجارتي التي ترافقني عادة في الملمات..، تلّفتُ حولي، يدي فوق جيبي‏
وبالأخرى ولاعتي،.. بدأت أبحث عن نافذة ما، عن مكان ما، لا يراني فيه أحد، سيما وأن‏
جدران المشفى تمسك بالكثير من اللوحات التي تحذر من التدخين وتشرح أضراره على‏
المرضى والأصحاء..‏
تراجعت رغبتي قليلاً، ثم ما لبثت أن ثارت من جديد وأنا أتجه نحو نافذة صغيرة في‏
زاوية ميتة لا زالت تنتظر خيوط الفجر التي أصبحت أكثر وضوحاً الآن..‏
تناهضت قليلاً حتى صار وجهي في قلب النافذة التي يغطيها شبك ناعم مهترئ في‏
بعض جوانبه.. تسربت إلي رائحة الفجر ونداه..، أشعلت سيجارتي وأطلقت دخانها الذي بدأ‏
يتسرب عبر عيون الشبك المهترئ، ثم يرتفع رويداً رويداً إلى أن يغيب بعد أن تمسك بأذياله‏
حلقات جديدة من الدخان المحترق ، والانفاس المحترقة أيضاً ... ولا اكتمكم أن بعض حلقات‏
الدخان تسربت إلى داخل المشفى وأنا أحاول التراجع قليلاً نحو الخلف لأرمق باب غرفة‏
المخاض حيث صراخ زوجتي..‏
لكن الصراخ هذه المرة جاء مختلفاً تماماً..، صراخ رجل له صوت خشن أجش مسربل‏
بالألم، والدموع، وندى الفجر.. أذهلني الصراخ، أصخت السمع، تراجعت قليلاً، نظرت في‏
أرجاء المشفى، لاشيء جديد، .. جاء الصراخ مرة أخرى..، ركضت سريعاً نحو النافذة،‏
أدركت الآن أن الصراخ يأتي من الخارج وباتجاه معاكس لحلقات الدخان المنبعث من‏
سيجارتي..‏
تناهضت من جديد، التصق وجهي بفراغ النافذة، وأنا ألاحق مصدر الصوت...آخ ..‏
يارب .. دعني وشأني، ويتصل الأنين والبكاء المخنوق، .. ويرتفع صوت آخر: أخرس يا‏
ابن الكلب..؟ والله سأعيدك إلى بطن أمك إن لم تعترف! ومن الخلف يتجدد صراخ‏
زوجتي..آخ.. يا ألله.. أترك النافذة ، أركض إلىحيث غرفة المخاض، ألتصق بالباب، أحلل‏
الأصوات والأنين والأنفاس، ووقع الخطا، ثم أعود مجدداً لأقف أمام النافذة، أشعل سيجارة‏
أخرى، ويقلقني الصمت لبرهة من الزمن أخالها دهراً..، حتى يرتفع الصراخ مرة أخرى ..‏
خشناً أجشاً مؤلماً مخنوقاً..‏
دخيلك يا سيدي..‏
آخ..‏
نعم أنا .. أنا يا سيدي..‏
وينهض الصوت الآخر خشناً أجشاً غاضباً..‏
إذاً : أنت الذي سرقت يابن...‏
آخ...‏
أجلت النظر في المكان....، أتسع فراغ النافذة أمامي، كلما ارتفع الصراخ.. أبنية كثيرة‏
متداخلة، ومداخن مرتفعة لازالت تحتفظ بسواد الأيام الخالية، وعصافير على زوايا الأبنية،‏
وفوق أغصان الأشجار الناهضة من خلف أسوار البيوت تنفش ريشها المبلل بندى الفجر،‏
وترسل صوتها في الفراغ وصراخ جاف حزين:‏
سرقت من أجل العيال يا سيدي‏
أنا لست سارقاً... آخ..‏
دققت النظر ..، ابتلعت عيناي كل النوافذ والجدران والأزقة، وارتكزت أخيراً على‏
نافذة حديدية سوداء تفضي إلى فراغ باهت هو نفسه مصدر الصوت، ضاقت حدقتاي وأنا‏
أحاول عنوة التقاط موجودات الفراغ، حتى بدت لي طاقية تنهض على رأس أطل سريعاً ثم‏
اختفى، وثمة سيارة في المكان جعلت الأمر واضحاً تماماً..‏
مصادفة غريبة أن تكون المشفى إلى جوار المخفر، هناك من يحاول إعادة الرجل إلى‏
بطن أمه، وهنا من يحاول إخراج المولود من بطن أمه!؟..‏
تسللت إلى شفتي ابتسامة، وأنا أحاول التقاط الأصوات والحركات... آخ دخيلك يا‏
سيدي..‏
ويأتي صراخ زوجتي .. آه .. يا ألله...‏
ثم تناوب الصراخ بين غرفة المخاض وفراغ النافذة، وتناوبت أذناي بين الداخل‏
والخارج...‏
وفي اللحظة التي ارتفع فيها صراخ طفلي الصغير تلاشى صراخ الرجل. لا أدري لماذا‏
لم أشعر بالفرح الذي كان يغمرني في المرات السابقة..؟! ..‏
ولا أدري لماذا شعرت أن الصراخ الأجش الحزين المسربل بالألم وندى الفجر ... هو‏
صراخي أنا، والد الطفل الذي أحمله الآن.. والذي بدأ يصرخ ويلوب بشفتيه بحثاًعن طعام..!؟‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
الـــــــصـــراخ
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اردن النشاما :: ₪ القصص والروايات ₪-
انتقل الى: