اردن النشاما
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


الشباب والبنات ( فرسان التغيير)
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 بنات حارتنا - ملاحة الخاني الجزء 4

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
فارس الا
زائر
Anonymous



بنات حارتنا - ملاحة الخاني الجزء 4 Empty
مُساهمةموضوع: بنات حارتنا - ملاحة الخاني الجزء 4   بنات حارتنا - ملاحة الخاني الجزء 4 I_icon_minitimeالسبت نوفمبر 03, 2007 4:42 am

عندما غادرنا القاعة المذهلة برائحتها الرطبة الخاصة غرقت الدنيا في عتمة خلف عتمة. أطرقت برأسي إلى الأرض، وبلعت لساني. اقتربنا من حارة العفيف. لاح أمام ناظري شبحان عرفتهما تماماً. أمي وقد لفّت قامتها الباسقة المتكبرة بعباءة سميكة مقصبة تخفي ثيابها الموردة، وأبي ترج عصاه المفضضة الأرض. اختبأت خلف "ناديا" وأخيها ريثما عبرا الطريق إلى جانبي. لم أقو على مناداتهما.‏
عند عتبة الباب ناولني أخي هشام صفعة رنانة لم أنسها طوال حياتي عمقت الهوة بيننا. أكد مرتين:‏
-لا لأنك ذهبت، ولكن لأنك كذبت.‏
قضيت ليلة رهيبة محبوسة في الحمام، أتصارع مع أشباح الظلام، أبكي وأتوجع بصمت.‏
شغلت العائلة عني مؤقتاً بقصة سامي. طاردتني نظرات أخوتي اللائمة. ضيقت الدائرة حول عنقي. كانت الثغرة التي فتحتها تجربة السينما دونما إذن وقبلها إخفائي هروب أخي تزداد عمقاً يوماً بعد يوم.‏
انطلقت بدوري أفكر بسامي من زاويتي المهملة بعيداً عن أحلامي. كتبت عنه، ومزقت ثم كتبت ما يجول في خاطري ورفضت الاستسلام تصلبت قدماي بقوة على الأرض. ها هو سامي متمرد آخر على قوانين جائرة يرفض الانصياع لأعراف العشيرة ويثقب تقاليدها ولا يبالي بالنفي.‏
ابتسم القدر في وجهي انزاح ثقل العائلة عن كاهلي بعد حين.. هرب سامي من المعسكر، وعاد إلى البيت متخفياً في الليل. وقف خائفاً متهيباً يخشى مواجهة الأهل. رأته أمي. ذهلت عما حولها. فارت القهوة على النار وكسرت الفناجين. هبت العائلة كلها. وبعد قليل جاء أبي.. ألقى سامي نفسه على يديه يقبلهما بحرارة. ويبللهما بدموعه جعلنا كلنا نبكي ودموع الفرح تهمي على وجناتنا.‏
لكنه عاد مقهوراً قلقاً زائغ العينين، يتناوشه هاجس الموت، بمفاصل هشة مرتعشة. عاد الكنار إلى القفص يغني موالاً حزيناً.. اختنق بأنفاسه مبكراً لأنه أضاع اتجاه الريح.‏
اجتمع مجلس العائلة. وقفت أبكي خلف أمي. تأتأ مرات. ناولته كأس الماء استدار نحوي يريد أن يشهدني، ولكنه تراجع إزاء خوفي.‏
"انتظرنا الطابور في محطة الحجاز. وجدت زملائي يودعون أهاليهم ويتناولون حقائب الطعام وعلب الحلوى من نوافذ القطار وكأنهم في نزهة إلى الربوة. كانوا في السن المناسبة بين الثامنة عشرة والعشرين، وكنت بينهم كالطفل الذي أضاع أهله.‏
حشرنا في عربات القطار الخمس. دفعت حقيبتي الصغيرة إلى رف فوق رأسي. وانكمشت في مقعدي أراقب الأجسام الضئيلة والضخمة التي تهبط وتصعد حاملة حاجياتها. راجعت خطواتي مذ فكرت في السفر راودتني فكرة الهروب والعودة وقد وجف قلبي وحاصر الندم روحي".‏
شهقت أمي دامعة.‏
"فجأة أغلق باب القطار بإشارة من عصا الميجر الإنكليزي. أغلق كل منفذ في وجهي. ظلت يد شاب معلقة بكف أمه وهي تقبلها. وعندما تحرك القطار انتزعها بقوة وراح يبكي.‏
خيمّ السكون الحزين على العربة هب أحدنا فجأة وأنشد بصوت رخيم: "موطني، موطني" اندفعت الأصوات الشابة خلفه بحناجر دافئة "موطني، موطني" يقطعها إيقاع العجلات مختلطة بالآمال تتماوج على وجوه شبان من أعمار مختلفة. شعرت بشوق خارق إلى أمي، إلى أبي، إليكم جميعاً. أوشكت أن أفقد وعيي، شعرت بتخاذل في أعصابي، انبجست الدموع من عيني بغزارة لكني قاومت النشيج خجلاً.‏
تحركت نحو الباب، باب القطار. أسلمته جسدي المنهك، وفكرت بأبي الذي يتفقدنا كل مساء، فهدّني ضعفي، تراكضت الأشجار في الظلام، تلاعبني مرة وتختفي عني مرة أخرى.. بدت سيقانها مبقعة بالضياء ينثره نور القطار. رجعت إلى مكاني تاقت نفسي إلى كسرة خبز. اجتزنا دمر والهامة. تجاوز القطار عين الفيجة. انبسطت أمامنا سهول الزبداني قطعاً قائمة منسقة، تفوح منها رائحة الأرض المحروثة. علا صفير وفح ونحن ندخل أرضاً أخرى، استسلمت لنغمة وغفوت جالساً.‏
صاح صوت:‏
-رياق يا شباب..‏
لكزت زميلي الذي غلبه النوم مثلي:‏
-وصلنا رياق.‏
رد بحسرة:‏
من هنا تبدأ مسيرتنا نحو المجهول.. إلى فلسطين، نقطع حيفا، غزة.. ثم مصر أم كلثوم.. الأهرامات.. النيل يا الله..‏
أفعمت الحرية صدري، تنفست الهواء ملء رئتي. كثرت الأقاويل عن دورة تدريبية. لم أع فكرة وأبعاد تلك الدورة فمن قائل سننتقل إلى الاسكندرية، وآخر.. لا بل إلى الصحراء، لا، إلى السودان.‏
جهجه الضوء.. انتصف النهار، مررنا بسهول ومزارع وأناس تركوا صورهم في رأسي أغنتني عن رغيف الخبز وقطعة الجبن التي قدمها لي جاري. اعتذرت منه، فلم يكرر دعوته، راح يقضمها بصمت. وينقل ناظريه بأسى بين وجوه المسافرين، كان شعره حليقاً عند الصدغين، بريء النظرة، نحيل القامة لا يكاد يبلغ خمسين كيلو غراماً، ربما في مثل سني.‏
قلت في سري:‏
-قد يصبح هذا رفيقي.‏
علمت أن اسمه "أحمد العنبري" من أطراف دمشق، فقير الحال، أبوه حلاب ماعز يدور على البيوت صباحاً.‏
كنت متشوقاً للوصول، عكس زملائي، مفعماً برغبة التغيير والاستمتاع باللهجة المصرية، ها قد اقتربنا منها. مررنا بحيفا، لم يسمح لنا بالنزول، مجرد ترتيبات أمنية، تخللها لغط عسكر انكليز على رصيف المحطة."‏
يسترسل سامي في رواية قصته، قلوبنا واجفة، وأعصابنا متعلقة بكل كلمة يقولها.. نتمنى بألا تنتهي، فكل حركة أتى بها تخصنا وكل حادثة مرت تهمنا.. نعيش معه في مغامرة كان يمكن أن يجد فيها نهايته.‏
"مضى القطار يطحن ذكريات الأهل والحارة.‏
صرخنا:‏
-اقتربنا من مصر.. آه أم كلثوم.. جئناك.. دخلنا الاسكندرية. هب هواء مملح على وجهنا. شممت رائحة بيروت. توقفنا قليلاً في المحطة، ثم جر القطار عجلاته نحو القاهرة. نقلونا إلى شاحنات عسكرية تحت ستر الليل. سار موكبنا صامتاً حزيناً كجنازة، ثم أفرغ حمله منا كالقمامة عند بوابة حديدية لمعسكر كبير. تفرقنا إلى مهاجع مستطيلة ملأتها أسرة عسكرية رفيعة الأرجل سريعة الطي عليها بطانيتان.‏
بدأت دورة التدريب بلا تأخير في الصباح الباكر لوصولنا. دورة تدجين بطيئة قاتلة.. ثم ها نحن وجهاً لوجه مع العمل المضني، حفر الخنادق، وردم الآبار، يا إلهي.. تصوروا.. ثلاثة أشهر، تسعون يوماً وليلة من الأشغال الشاقة. يأتيني وجه أمي في الليل وغضبة أبي، ودهشة أخوتي، يدفعني وضعي إلى الجنون، فأنخرط في حوار مع نفسي لا ينتهي ثم أبكي كطفل.‏
شيئاً فشيئاً تبلورت الأمور في ذهني، فهمت أن الحرب ليست حربنا. وما نحن إلا عيدان كبريت تحترق أولاً.. غداً ستساق إلى ليبيا ونحارب؟ والعياذ بالله. وهكذا صممت على الفرار والعودة إلى دمشق. أحسست أنني كبرت عشر سنوات. دبرت أمر الهرب مع رفيقين لي من حي المهاجرين تلكأنا عن التدريب، تسترنا.. ومن خلف سياج هربنا كالقطط.. المحطة تعج بالجنود. ركبنا القطار من القاهرة باتجاه حيفا بإجازات مزورة. توقفنا في محطة حيفا. لم نر منها سوى أضواء العنابر التموينية المحاطة بأسلاك شائكة، والسكك الحديدية اللامعة في الليل البهيم تتحرك قربها أجسام عملاقة.‏
تناولت الحقيبة وعصرتها على بطني. كنت قد اتفقت مع رفيقي من أهل الشام على إبلاغ أهلي وأهله فيما إذا أوقف أحدنا أو حوكم.. أو اغتاله رصاص الإنكليز.‏
كان جوفي ينعصر بشدة وكنا جائعين. تلاقت نظراتنا عازمة، حازمة. هذه فرصتنا، فلنغتنمها، لكن هذه المرة بحذر وتدقيق وتعقّل".
أكمل سامي:‏
"تسللنا في حيفا تحت جنح الظلام إلى ظهر القطار كالعفاريت، يدفعنا خوف من خطر يشل أقدامنا، فلو أن دوريات العسكر المتواجدة ضبطتنا لكان مصيرنا الإعدام رمياً بالرصاص. انبطحنا على بطوننا مصلوبين هلعين.‏
أسلمتنا رتابة العجلات على السكة الحديدية إلى نوم مربك قلق يهدهد أحلامنا الطفولية. أيقظتنا من خوفنا رجة قوية وصفير متواصل وصلنا بيروت.‏
هرج ومرج على الرصيف.. العسكر العائدون بإجازة، وأهلهم المستقبلون.. تسللنا هابطين وحين ابتعدنا ووصلنا برّ الأمان توجهنا إلى كراجات الشام. رمينا الطاقيات نحو السماء نضحك ونلهو كالمجانين ونحن نسأل عن سيارة أجرة تقلنا إلى عائلاتنا.‏
تحسسنا إجازاتنا المزورة في ساحة "فكتوريا" خوف مداهمة الشرطة ونحن في الزي العسكري. نفحت فينا حرارة الشجاعة، وأنقذتنا من رعب مميت. انحل عقد الرفقة في ساحة المرجة عند موقف ترام المهاجرين. تلفّت حولي. آه، يا دمشق، ما زلت حلوة نظيفة. رميت بجسدي على الحافلة مكذباً نجاتي، ألصقت أنفي وعيني بزجاج النافذة أتملى مشهد بردى يتراقص ماؤه في ضوء الليل. وبدأت أعب، أعب من هواء الشام، من تعبي، وخوفي، وشوقي. يا لحظي الذي تمطى كعملاق. فيما كانت تتخطفني اللهفة نشوان أحسست بلكزة في كوعي. استدرت مرتعداً، رأيت وجهاً مألوفاً. عرفت وجه عياد الليبي الذي هربني من بيتي وبلدي لألتحق بالجيش الانكليزي، عانقني بحرارة سألني عن أحوالي، ثم نظر إلى ساعته..‏
-الساعة العاشرة ليلاً.. هل أنت في إجازة؟‏
أجبت بريئاً:‏
-معي إجازة، اشتقت إلى أهلي وبلدي، ولكني لن أعود يا عياد.. لمحت على وجهه ابتسامة صفراء عريضة لم أعن بملاحقة معناها فقد صرت في الشام، ولن يتمكن لا هو ولا أي عميل آخر أن ينتزعني منها. فجأة قفز عياد من الترام كجني، وانشقت الأرض عنه، لم أبال به.. إلى ألف جهنم.. وعندما وصلت البيت كان السكون يخيم عليه. وقفت أمام النافذة متردداً، حاولت اختراق الظلمة، من الدرفات الخشبية، عجزت، نقرت الباب بيدي سمعت خطوات سلمى وصوت باب يفتح، هدأ قلبي جاءني صوت سلمى:‏
همست:‏
-أنا سامي افتحي لا تخافي، رأيت سلمى تعاني نعاساً أثقل جفنيها. توقفت لحظة قبل أن ترتمي وتعانقني، خلصت قدمي من بسطاري العسكري.. ومشيت على رؤوس أصابعي غير مصدق أنني صرت في بيت أهلي. لكن في أعماقي خوف هصر أعصابي وألهب حساسيتي، فأنا أتوقع شراً وخوفاً من غول ما انفك فاغراً فاهاً مرعباً.‏
توقف "سامي" عن الكلام وأطرق.. جالت عيوننا تتصفح وجوه الآخرين. لتتوقف عند وجهه المتعب. كان قد أخذ يبكي وينشج كطفل..‏
انخطفت أمي إلى المطبخ، وعادت بكأس ماء. تناولها بيد مرتجفة، ورشف منها، رفع بصره تجاه أبينا الذي لفت بصره إلى ناحية أخرى. كان على درجة عالية من التأثير. لكنه ضبط أعصابه، ورفع سبابته:‏
-لنأكل لقمة، أحس بالجوع. لا نعرف ماذا يخبئ الغد.‏
شهقت أمي دامعة، رصت يدها على فمها، وقفزت مضطربة إلى الحمام تتقيأ الحزن صاح أخي هشام من قلب الدنيا:‏
-العسكرية، ظننتها لعبة. لا تخرج من البيت، لن يتركك الكلب.‏
كنا فعلاً على موعد مع الغول، قرع الباب ولما يُنه المؤذن قول: "حي على الصلاة، حي على الفلاح". شعرت بيد قاسية تقبض على صدري وتأخذ بخناقي. سرقت نظرة من ثقب المفتاح، لم أتبين سوى لباس عسكري. ارتعدت مفاصلي، عملاقان من البوليس الإنكليزي. ومعهما رفيق أخي في المدرسة "عياد الليبي" اثنان آخران. عرفنا فيما بعد أن صاحب الطربوش المائل الذي يمصمص شفتيه وأسنانه، ويعلك الكلام هو المختار. والثاني شرطي من مخفر المهاجرين، مصطبة.‏
هبّ سامي حافياً خلفي. حاولت منعه، فدفعني عنه وفتح الباب، برقت عينا الأشقر بنصرٍ مؤزر، تكلم بعربية محطمة:‏
-أنت سامي الشريف، يا الله، تعال معنا.‏
نحى جسده العريض الذي سد الباب، فتسللت منه خيوط الفجر الأولى ونسمة رقيقة داعبت دموعي.‏
أدخل سامي قدميه المتورمتين في البسطار الكبير وسلم نفسه بالبيجاما، غنمة طائعة مدت عنقها للذبح قبل أن يفيق أبي.‏
صرخت وتعلقت بسترته.‏
-لا تروح سامي، سامي لا تروح. انتظر بابا. جاء بابا.‏
[size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12][size=12]
[/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size][/size]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
بنات حارتنا - ملاحة الخاني الجزء 4
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اردن النشاما :: ₪ القصص والروايات ₪-
انتقل الى: