اردن النشاما
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


الشباب والبنات ( فرسان التغيير)
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 بنات حارتنا - ملاحة الخاني الجزء 8

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
فارس الا
زائر
Anonymous



بنات حارتنا - ملاحة الخاني الجزء 8 Empty
مُساهمةموضوع: بنات حارتنا - ملاحة الخاني الجزء 8   بنات حارتنا - ملاحة الخاني الجزء 8 I_icon_minitimeالسبت نوفمبر 03, 2007 4:47 am

عرفت ومن معي بما لا يدركه الشك بأن الجيش الإنكليزي في تدهور وتراجع. لازمني سوء الحظ في الفترة العصيبة لاندحارهم وتقهقر الجيش الثامن حتى أبواب الإسكندرية. بل قيل ذلك حتى((مرسي مطروح)).‏
تهب الأخبار مثل زوبعة مداً وجزراً، تقلباً وهدوءاً، حيال أي تقدم أو تقهقر، في هذه الأثناء تغيرت القيادة الإنكليزية، قبض عليها الرجل الحديدي((مونتغمري)) رص الصفوف، أعاد تنظيم الجيش الثامن، نفخ فيه روحاً عسكرية حديثة، دعمتها الإمدادات الأمريكية عبر البحر.‏
هكذا استسلمت إيطاليا، وانسحب الحليف الألماني الجنرال رومل إلى الصحراء وتبدلت القيادة الألمانية أيضاً، أدى الاختلاف بين القيادتين المتدربتين مع فن الحرب في الصحراء إلى هزيمة نكراء ساعدت الحلفاء على تطويق الجيش الألماني.‏
- يا حرام على مصر، يا حرام على مصر يا حرام عليك يا مصر أم الدنيا. ردد سامي وضرب جبينه بكفه.‏
وقفت الدنيا على رأسها. عمت المجاعة مصر كلها وتسلطت الأوبئة على الشعب المسكين البسيط، فمن نجا من الكوليرا سقط فريسة مرض الزهري والطاعون الأسود حتى ملأت رائحة الموت الخياشيم، ودخلت الزنزانات المغلقة، وشوارع القاهرة رحل العديد من المساجين السود حمدت ربي أني داخل القضبان أثناء تلك القتامة التي محت الحياة حولي وحتى الشمس اللاهبة التي باتت كئيبة باهتة، كانت الأنباء شاهد عصر على قسوة الحرب الضروس التي جرت الشعوب الضعيفة ومصر إلى حافة الهاوية. حرقت الجثث أو طحنت بجنازير الدبابات الثقيلة. باعت الحرة طفلها، والصبية جسدها وغزت همجية القرون الوسطى شوارع القاهرة تتاجر بالرقيق الأبيض مقابل لقمة العيش.‏
أنباء رهيبة كانت تصلنا. تعلمت كيف أكره الإنكليز، فلا الجيش جيشنا، ولا اللغة لغتنا.‏
سألني المدعي العام:‏
- ما الذي دفعك إلى صفوفهم؟‏
أجبت:‏
- أحببت رؤية مصر.‏
استغرب المدعي العام قولي. نظر إلي بدهشة كمن يعاين مجنوناً..‏
- تدخل الجيش فقط ليأخذوك إلى مصر؟‏
- نعم سيدي..‏
تأكد عند ذلك من سذاجتي أن يكن من جنوني.‏
في اليوم السابع من محاكمتي المرهقة. ثارت علي أسناني. تفجر رأسي من الألم: ولم أقو على تركيز مخي، جروني إلى عيادة طبيب يهودي اسمه((صموئيل)) كان يهودياً قذراً بلا قلب. أدخل الكلابة في فمي وخلع لي ضرسين سليمين دون مخدر. صحت من الألم ورفسته بالبسطار على وجهه. أعادوني إلى الزنزانة لم يتوقف النزيف كدت أختنق بالدم وعندما رآني الحارس رثى لحالي وأشفق علي... أخبر الشرطة العسكرية. نقلوني إلى المستشفى وخاطوا الجرح الذي لم يندمل.‏
كانت فترة المستشفى وقلع الضرسين، ومرارة الألم فترة راحة واستحمام لي. لم تلبث أن انتهت سريعاً، فقد أعادوني إلى المحكمة مثل كلب أجرب وقرأوا علي التهمة التي تلخصت كالتالي:‏
- الهروب من الحرب بالسلاح الكامل.‏
- كنت بحاجة إلى إنسان من أهلي ووطني. فرغم قسوة الموقف ظلت ذاكرتي تعيدني إلى دمشق. احتل هذا الحلم ذهني. كان الأمل الذي يمدني بالشجاعة والصبر.‏
أعادوني إلى القاضي، للمرة الأخيرة سألني:‏
- العمر‏
- ستة عشر عاماً‏
حدق في الأوراق، ثم أدخل يده في درج المكتب وأخرج ورقة كان قد زورها عيّاد ليصبح العمر ثمانية عشر عاماً. ثم أخرج الوثيقة الأصلية التي جاء بها الشيخ العميل من دمشق، وقارن بين الاثنتين.‏
قال القاضي عاقد الحاجبين مع ظل ابتسامة بصوت مهيب بعد معاينة استنطاقي الأسبق:‏
- أهذه تذكرتك؟‏
أجبت: نعم.‏
- تكلم، كيف تطوعت بالجيش.. جيش بريطانيا العظمى.‏
عدت أؤكد ونظري إلى الأرض:‏
- أحببت أن أرى مصر، لا علاقة لي بالإنكليز ولا بالحرب. ترجم رجل وقف إلى جانبي. كان بديناً ذا وجنتين منتفختين ونظارتين هبطتا إلى أرنبة أنفه.‏
ضحك الحاضرون بصوت عال. تقبلت نتيجة المحاكمة بفرح عارم. حكم علي بالسجن مدة أسبوعين مع تسريح من الجيش لصغر سني.‏
ظل موضوع غلاء الخبر يؤرق الناس في حياتهم اليومية وبات الهم اليومي الذي يقض مضاجعهم، ويلون سهراتهم بقصص العوز والتقتير.‏
خرجت من البيت المجاور المرأة الليبية التي كانت تودع حليها عندنا إثر كل يمين طلاق يطلقه زوجها. كانت تحمل حقيبة ملابس واحدة. وتجر ثلاث بنات ذاهلات عن المصير خلفها. فتحت أمي الباب راجية إياها أن تخزي الشيطان ريثما يتم الصلح بينها وبين زوجها:‏
- الصباح رباح يا أم نادية.‏
- لا، لن أعود إليه، واللّه لن يرى ظفري بعد اليوم.‏
همدت الأصوات نهائياً في المنزل. ثم تغير شيء حولنا. دخل الحارة طنبر خشبي يجره حصان أصهب.‏
توقف أمام بيت أم ناديا المهجور. أنزل العتال أثاثاً ملفوفاً بعناية، وآلات معدنية كبيرة حديثة، وكرسياً دواراً تناوله رجل مخضب الشعر في الخمسين من عمره. علّق الرجل قطعة نحاسية مستطيلة على الباب. حفر عليها: كامل السمان طبيب أسنان وجراح.‏
تلهّت الحارة بالزوار الجدد، وأغمضت عينيها عن رجل غريبة دبت لعملاق ضخم الجثة تفوح من فمه رائحة عجيبة ذات أبخرة واخزة، يرتدي قنبازاً مفتوحاً كالحاً وشالاً يضمه حول وسطه بزنار جلدي عتيق. يأتينا كل يوم.. يترنح في مشيته يمنة ويسرة إلى أن يصل إلى دكة ترابية يجلس قرب برميل القمامة القلاب. ثم يخرج رغيف خبز التقطه من الفرن ويقضمه على مهل. تدفع قذارة شكله وشعره الطويل اللزج الأولاد إلى الضحك والسخرية منه، وأحياناً إلى ضربة بالحجارة وشد الزنار ينفلش القنباز المهترئ عن بدن عار في عز الشتاء.‏
يلكزه خبيث:‏
- حميدو، أين كنت البارحة؟ لا تخجل، قل، قل.‏
وينط آخر:‏
- اعترف لك حشاش.‏
ترف عينا حميدو الزائغتان بحثاً عن معين. لا يجد. يعود ساهماً تائهاً في جلسته.‏
- حميدو.. إبك.. أين بيتك؟. حميدو ارقص.‏
يترنح حميدو ثقيلاً، يدب بخوف مبهم. يدور دورتين ثم يقع على الأرض.‏
- شوفوا المجنون. حميدو، غني يا وابور اجري، حميدو ابكي.‏
يمسح حميدو عينيه. تهر منهما دمعتان حقيقيتان. يبحث عن عود ثقاب، يمد يده مستنجداً. ويضربه الصبي هيثم، يدوس حسن على قدمه يبقى حميدو ضعيفاً حتى الموت.‏
حشاش، حشاش يخرب بيتك، ما وجدت غير هذه الحارة حتى توسخها... أمامك القميم في العفيف، هناك تستطيع أن تحشش على مهلك. سلطان زمانك. يا اللّه انقلع. يميل الغريب على جنبيه ويعود في اليوم التالي أشد إلحاحاً على جلسته مترنحاً مهاناً لا واعياً. كل ما تعرفه الحارة عنه. أنه خرج من السجن حشاشاً اتهمه زوج أمه بالسرقة. طرده من البيت، وسلمه إلى الشرطة.‏
تنبعث من عيادة الطبيب(كامل السمان) أغنية يومية أسيانة بصوت(لور دكاش) الرخيم الصداح. أغنية واحدة لا تتغير وكأنها أبدية. (آمنت باللّه. نور جمالك آية، آية من اللّه. آمنت باللّه).‏
ألفت في عودتي من المدرسة ظهراً رؤية امرأة تركية شقراء الشعر تلف شعرها المنسق الأملس بشبكة سوداء ناعمة تعقصه على شكل قلب فوق الجبين العالي.‏
كانت قصيرة القامة، بنظرة نبيلة تنبئ عن ماض عريق. ترتدي طقماً أسود يطل من قبته الرسمية قميص أحمر. تنتعل في قدميها حذاء من الفلين السميك. تهرول خلفها امرأة سوداء لا تحاذيها أبداً، ولا تكلمها فقط تتبعها كظلها.‏
يطغى النداء الدافئ من حنجرة(لور دكاش) على أزيز الآلة المرعبة لنخر الأسنان. يتلصص الأولاد من ثقوب الخص الخشبية المتقابلة. يدفعهم فضول ما إلى فعل ذلك لا يدري أحد كنهه. فعل صبياني محرم على الكبار ومباح للصغار.‏
تصمت الآلة. لا ينير الضوء الخافت الغرفة، بل يسهم في تهييج الخيال، يتبادل الأشقياء الكلام.‏
- أين يده، قدمه، فمه... ولكن هي، أين هي؟‏
تظل الخادمة جالسة وحيدة في الردهة. صنم قُدَّ من أبنوس قديم. تلف سيكارة وتدخن بصمت لاهية عن العالم. أتراها جالسة معها مجرد حماية.. أم ماذا؟‏
تخرج المرأة التركية. تمشي فتتبعها المرأة الأخرى. تتكرر اللقاءات. وتكبر الإشاعات. وتتأجج الغيرة الحمقاء في الصدور.‏
لابد من كبش فداء يبرد الدم يجب أن يسيل الدم حاراً قانياً كي يغسل أعتاب الحارة من رجس الشيطان. ولكن متى. لابد من توقيت.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
بنات حارتنا - ملاحة الخاني الجزء 8
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
اردن النشاما :: ₪ القصص والروايات ₪-
انتقل الى: